قبل مدة قصيرة، كانت أم حسين من بلدة حزرتا تذهب على ظهر حمارها إلى زحلة لتبيع الخبز "المهلول"، الذي تصنعه بيدها لزبائن محددين في منازلهم. لكن، فجأة، اختفت أم حسين من أحياء زحلة، من دون أن يختفي معها خبز المرقوق، بل صار متوفراً على رفوف الدكاكين والسوبرماركت، وفي الزوايا التي تفوح منها رائحة القمح المُشهية، حتى تغلب على الخبز العربي في نسبة الطلب عليه.
عملياً، يشكل رواج هذا الخبز عودة إلى صناعته الأولى. إذ لم يكن يخلو بيت في القرى منه. وقد تحولت هذه الحرفة إلى مهنة، يتقنها الشبان السوريون في لبنان ومسنات تخلين عن "حرفتهن" تدريجياً.
نعيمة، عجيزة، فدوى وغيرهن كن كخلايا نحل في "هل" المرقوق في بلدة حزرتا، قبل أن يقعدهن الزمن. تخبر عنهن حبلى، التي بقيت من بين قليلات في البلدة تعجن كيساً واحداً من الطحين يومياً كحد أقصى، وتتعاون مع ابنتيها الجامعيتين على اخراجه خبزاً، بعدما كانت سابقاً تعجن ما لا يقل عن 6 أكياس طحين وتوزع خبزها على أكبر محلات الطعام.
فالعملية ليست سهلة، كما يقول ماهر (اسم مستعار)، الذي يصنع "المهلول" في بوارج، وهي تحتاج إلى قوة "بدنية" وجلد وقدرة تحمل، لا يعتقد أنها موجودة عند الشاب اللبناني. وفي مسافة لا تتعدى المتر، تجد ماهر في حركة دائمة، يحمل أقراص العجين الرخوة بين يديه ليحولها على وسادة دائرية إلى صفحة رقيقة متناسقة الأطراف.
في أقل من نصف دقيقة يضعها على فرن الصاج الحامي. ثم يحضر الصفحة التالية قبل أن ينزع الأولى، ويضعها لترتاح إلى جانبه. هكذا، على مدار 7 إلى 8 ساعات يومياً، تخاله آلة تتحرك من دون تعب، فيما الآلة الوحيدة المستخدمة في الصناعة هي العجانة التي أراحت مصنع الخبز من الشقاء.
المفارقة الأساسية هي أن الشباب السوري الذي يتقن الصناعة لا يحبذ تناول هذا الخبز. إذ إن معظم السوريين في لبنان يد عاملة، وفق ماهر، وهؤلاء لا يقيتهم في ساعات العمل إلا الرغيف العربي. فيما الطلب اللبناني يتعلق بمقتضيات الحفاظ على الصحة والرشاقة، لاسيما بعدما دخل الخبز المرقوق كمكون أساسي في معظم وصفات انقاص الوزن.
عليه، عندما أراد أبو كوكو أن يفتح محله لخبز المرقوق، في حوش الأمراء قبل أربعة أشهر فقط، بحث فوراً عن معلم سوري. فوظف شاباً عشرينياً من بلدة أطنا السورية، يقول عنه إنه "أشطر" المعلمين في صناعة هذا الخبز. ولو أن "اتقان الصناعة لا يتعلق بالشطارة بقدر ما هو تطويع للدماغ حتى يتقن العملية بالفطرة"، وفق معلم المرقوق خالد، الذي يقول إنه تعلم "الهل" في سن مبكرة. ما جعل حركة يديه تلقائية تماماً كما قيادة الدراجة الهوائية أو غيرها، لترتبط باقي عوامل نجاح الرغيف بنوعية الطحين المستخدم، الذي يجب أن يكون من القمح الأسترالي أو البلدي. ما يجعل الخبزة تذوب في الفم، وتكون رائحتها كما لونها مميزين، فتصبح مرضية لثلاث حواس على الأقل.
(المدن)