يعيش اللبناني هذه الايام على الارقام، يستطلع سعر الدولار ارتفاعاً او انخفاضاً، يرصد جدول اسعار المحروقات وأرقامه الموجعة بعد رفع الدعم، يذهب الى السوبر ماركت لشراء حاجاته ويدقق بكل "ألف ليرة" يصرفها من جيبه حرصاً منه على وضعها في المكان الصحيح، وعند وصوله الى الصندوق للمحاسبة، يُعيد جزءاً كبيراً من أغراضه نظراً لارتفاع رقم الفاتورة الذي لا يتلاءم مع الرقم الذي يحمله في جيبه.
تحولنا الى أرقام لمواجهة الضغوط المالية والاقتصادية، والأُسرة المكونة من ثلاثة أشخاص لا يمكنها الاستمرار بمدخول فرد او اثنين منها، فالحد الأدنى لتأمين أقل ما يمكن من حاجات هذه الأُسرة اليومية لا يقل عن عشرة ملايين ليرة لبنانية، تضاف اليها فاتورة المولد الخاص والانترنت وبطاقات تشريج الهواتف المحمولة.
وأمام هذا الواقع الأليم، وفي ظل انسداد أفق الحل اتجه الشباب اللبناني نحو الهجرة، واللافت في هذا الاطار أن معظم هؤلاء هم من الطلاب الذين قرروا اللجوء الى الغرب لتحصيل علمهم، رغم كل التحديات المرتبطة بتحويل الاموال لهم والمصاعب التي يواجهها بعضهم في الجامعات، ولكن طمع هؤلاء، الذين تتراوح اعمارهم بين ١٨ سنة و ٢٣ سنة، بالحصول على فرصة عمل وهم على مقاعد الدراسة ليتمكنوا من تأمين مصروفهم الشهري ويخفف العبء الشهري عن اهاليهم من جهة، ويستطيع هؤلاء من جهة ثانية أن يعتادوا وهم على مقاعد الدراسة الجامعية على نمط الحياة في البلدان التي يتابعون فيها تحصيلهم العلمي.
وتتفاوت الاعداد بحسب المناطق والطوائف، حيث ترتفع في المناطق المسيحية التي تشهد هجرة واسعة لتلامذة الجامعات، من الذين استطاعوا تأمين الدولار للتسجيل في تلك الجامعات او عبر منح دراسية. باتت المنازل شبه فارغة وهاجس الاهالي تأمين الـ "فريش دولار" لأولادهم في الخارج لتأمين مستقبلهم هناك في ظل التدهور المستمر للوضع الداخلي والتخبط السياسي الكبير في ايجاد رؤية واحدة لمواجهة المصاعب. أكثر من ثلاثين في المئة من الطلاب هاجروا وهذه الارقام مستقلة عن طلبات الهجرة المكدّسة على طاولة السفارات الغربية وتحديداً الكندية والاسترالية.
يسعى اللبنانيون الى تأمين مستقبل أولادهم عن طريق طلب العلم، إذ يبادر الاهالي الى تأمين المزيد من الدولار لتغطية مصاريف أبنائهم حوالي السنة، وبعدها يمكن للطالب أن يدخل الحياة المهنية في البلاد ويُغطي جزءاً كبيراً من مصروفه الجامعي، وعندما يُنهي سنواته الجامعية يدخل الطالب اللبناني مباشرة الى سوق العمل، ليُعيل من بعدها والديه وعائلته طالما أن الوضع سيبقى على حاله لسنوات بفعل الانقسام الكبير في رؤية الاطراف السياسية لمؤسسة الدولة اللبنانية.
الا أن الخسارة الكبيرة التي ستُمنى بها الدولة على المدى المتوسط والبعيد هي هجرة الادمغة واستغلال الطاقات الوطنية في الخارج، وهذا الامر يُضاف الى هجرة الاطباء والمهندسين والاساتذة الجامعيين كما العاملين في القطاعات التكنولوجية الى الخارج، وما رافق ذلك من انهيار سريع للمنظومة الصحية والتعليمية في لبنان وتراجعت الخدمات في مختلف القطاعات.
المستقبل التعليمي قاتم، والمرحلة المقبلة ستدفع الى مزيد من الهجرة في صفوف الطلاب، وربما يصل الأمر الى ترك بعضهم التعليم ليلتحق باكراً في سوق العمل الخارجي، في ضوء تطور الوضع العالمي وانطلاق عجلة العمل بعد أزمة كورونا، اذ تشير الطلبات المقدمة من قبل الشباب اللبناني وتحديداً المسيحي الى تحوّله الى مجتمع هرم غير منتج، وانعكاس ذلك على وضعه السياسي في الدولة.