أكثر من 60% من الإصابات بفيروس كورونا، اليوم، تسجّل ضمن الفئة العمرية التي تقلّ عن 49 عاماً. مشكلة هذا الرقم أنه يحمل الكثير من الدلالات الخطرة، أوّلها أن هذه الفئة هي الأكثر نشاطاً ضمن المجتمع، وثانيها أنها الفئة نفسها التي «أخّرت» مسار التلقيح في واحدة من المراحل لرفضها تلقّي لقاح «أسترازينيكا»، وثالثها أنها الأكثر تفلّتاً من الإجراءات. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن لبنان اليوم يقف في المربع «الرابع» من التفشي المجتمعي الذي ينذر بقرب الدخول في الذروة الثالثة. وهو سيناريو قد لا تستطيع البلاد تلقّفه، كما في المرتين السابقتين، لعدم قدرة القطاع الصحي على مواكبة هذه الموجة، وعجز الدولة وأجهزتها عن مواجهة الكارثة في ما لو حدثت
عملياً، انتهت «الهدنة» التي عاشتها البلاد متخفّفة من فيروس كورونا على مدى خمسة أشهرٍ متواصلة، مع دخول المستوى الرابع من التفشي، وهو المستوى الأخطر والأخير في تمدّد الفيروس. ويأتي هذا التدحرج نحو مربع الخطر بعد «الإنجاز» الذي تحقّق بالوصول إلى المستوى الأول، قبل أن تنزلق الأمور، منذ ثلاثة أسابيع، إلى نقطة اللاعودة التي تنذر بالدخول في ذروة رابعة «هي جدياً الأخطر»، على ما يؤكّد رئيس اللجنة الوطنية لإدارة لقاح كورونا عبد الرحمن البزري.
أخطر ما في هذه المرحلة التي انتقلت معها البلاد إلى أعداد إصابات تقترب من حافة الـ 2000 إصابة يومياً، وبنسبة مخيفة من الفحوص الإيجابية التي قفزت خلال ثلاثة أسابيع من 4 في المئة إلى 10,3%، أنها تأتي في لحظةٍ حرجة يمرّ بها القطاع الاستشفائي الذي يعمل حالياً بأقل من 50% من قدرته، بحسب نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون، لأسبابٍ كثيرة ليس أقلّها النقص في الأدوية والمستلزمات الطبية وحتى الأوكسيجين. وهذه كلها باتت تسعّر بدولار السوق الموازية. السوريالي في المشهد أن المستشفيات اليوم، على عكس كل المرات السابقة، تملك فائضاً من الأسرّة، إلا أنها لن تكون قادرة على استيعاب مرضى الكورونا في ما لو حلّت الموجة الثالثة.
وسط كل هذا، تنشغل الدولة بأزمتها الاقتصادية ومشاكلها السياسية فيما عدّاد كورونا يواصل صعوده يوماً بعد آخر. وباستثناء الإجراءات التي تتخذها لجنة متابعة التدابير والإجراءات الوقائية، وتبقى في معظمها حبراً على ورق لانعدام الرقابة وقصور أجهزة الدولة، فإن أحداً لا يضع تصوراً لاحتواء الأزمة، لتبدو الأمور كأنها متروكة للعناية الإلهية، تماماً كما حدث في أعقاب الموجة الثانية القاسية التي مرّت في فترة الأعياد الماضية. اليوم، «خطر» الأعياد لا يبعد أكثر من أسبوعين على أبعد تقدير، فيما عدّاد كورونا يسير مسرعاً نحو ذروة جديدة، إذ انتقل في شهرٍ واحد من 642 إصابة (4 تشرين الثاني الماضي) إلى 1654 إصابة (5 كانون الأول الجاري)، بزيادة تخطّت الألف. والأسوأ من أعداد الإصابات، هو أعداد الضحايا التي سجلت أمس 10 وفيات، في انتقال واضح إلى مرحلةٍ جديدة لما بعد العشر وفيات يومياً، يضاف إلى ذلك أعداد الحالات الحرجة في غرف العناية الفائقة التي تستقر منذ نحو شهر عند الرقم 252 و257. ولا يعدّ هذا الاستقرار معياراً مطمئناً، إذ إنه بحسب بعض الأطباء يعني أن «غرف العنايات لا تفرغ من المرضى، إذ كلما خرج أحد المرضى منها أو توفّي حلّ مكانه آخرون ممّن هم على لائحة الانتظار الطويلة»! وكذلك الحال بالنسبة إلى الحالات الحرجة الموصولة إلى أجهزة التنفس، حيث كان الرقم أمس يسجّل 52 حالة.
ليست هذه الأرقام نهائية. إذ يتوقع المتابعون لـ«نشاط» الفيروس أن تكون المرحلة المقبلة حاسمة، وإن كان ثمة جوّ من التشاؤم يسيطر اليوم مع اقتراب عطلتَي الميلاد ورأس السنة وما تعنيانه من نشاط «السياحة الداخلية». وهذا عملياً يعني أن «تمديد عطلة المدارس كانت وظيفتها نقل الانتشار من المدارس إلى البيوت والمناسبات والشوارع»، على ما يقول أطباء متابعون.
في الشكل وفي المضمون، لا عودة إلى الهدنة. الأرقام تتّجه نحو مزيد من التأزم، وإن كانت بعضها لا تزال ضمن المتعارف عليه عالمياً، ومنها على سبيل المثال عدّاد الوفيات. إذ تشير لائحة أعمار هؤلاء إلى أن «فيروس كورونا لا يزال يكره كبار السن»، على ما يقول عضو لجنة متابعة التدابير والإجراءات الوقائية لفيروس كورونا الدكتور عيد عازار. ولا تزال حالات الوفيات بين صغار السن «حالات نادرة»، وهي تحدث في المجمل بين المصابين بأمراضٍ مزمنة، إذ إن نسبة هؤلاء من حملة الفيروس هي بحدود 90%.
أما بالنسبة إلى عدّاد الإصابات الذي انتقل من المستوى الثالث من التفشي إلى الرابع في غضون 3 أسابيع، فتشير التقارير اليوم إلى أن أخطر ما يحدث هو تركّز الإصابات في الفئات الأكثر نشاطاً، أي ما بين 10 و49 عاماً. وهي عملياً «الأعمار الشابة، سواء طلاب المدارس أو الجامعات أو الموظفين»، على ما تقول رئيسة برنامج الترصد الوبائي في وزارة الصحة العامة، الدكتورة ندى غصن. وتستحوذ هذه الفئة على أكثر من 60% من عداد الإصابات، غير أن النسبة الأكبر (نحو 20%) هي ضمن الفئة العمرية من 30 إلى 39 عاماً، تليها من 40 إلى 49 عاماً، ومن ثم 10 إلى 19 عاماً، ومن 20 إلى 29 عاماً.
وثمة أسباب متشعّبة لهذا التركز، منها ما يتعلق بتفلّت هذه الفئات من الإجراءات الوقائية من فيروس كورونا، وتحديداً الملقّحين منهم، ومنها ما يتعلّق بالموقف «المتصلّب» من لقاح أسترازينيكا ضمن هذه الفئة. في الشقّ الأول، ثمّة خطأ شاع بين الملقّحين أن اللقاح يمنع الفيروس، فيما «الأصح أنه يحمي من العوارض الشديدة للفيروس»، على ما يقول أحد الباحثين في مختبر الجامعة اللبنانية، لافتاً إلى أن نسبة الإصابة بعد التلقيح قد تصل إلى حدود 60% ولا تقلّ عن 40%. أما بالنسبة إلى غير الملقّحين، فقد أسهمت هدنة الأشهر مع فيروس كورونا إلى تفلّت الناس من الإجراءات الوقائية من جهة، واستهتار الدولة بأجهزتها من جهة ثانية.
في الشقّ الآخر المتعلّق بموقف معظم من هم ضمن الفئة العمرية من 30 إلى 49 عاماً من لقاح أسترازينيكا، تظهر التقارير أن الهوّة شاسعة بينها وبين الفئات العمرية الأخرى (من 50 إلى 90 عاماً) التي تلقّحت بلقاح فايزر، وهو ما دفع بوزارة الصحة أخيراً، إلى السماح لجميع الفئات العمرية بتلقّي لقاح فايزر. من جهة أخرى، هناك فئة من هم في المدرسة، فهؤلاء لم تصدر أي توصية بعد بتلقيهم للقاحات، فيما النسبة ضعيفة لمن هم بين 12 و19 عاماً، «ولم ترق إلى المستوى المطلوب»، على ما يشير البزري. وانعكس هذا كله في «عدّاد المحافظات»، حيث كانت نسبة الإصابات أقوى في المحافظات الطرفية، من النبطية إلى بعلبك والهرمل والبقاع والشمال وعكار.
يحدث ذلك في وقت خفتت فيه مسيرة اللقاح قبل أن تنشط أخيراً، إذ لا تزال أعداد الملقّحين بجرعتين كاملتين تبلغ 33% من إجمالي الملقّحين و39% لمن تلقّوا جرعة واحدة، وهذا يعني أن ثمة شريحة كبرى لم تتلقّ بعد لقاحاتها، وهو ما يفسّر إلى اليوم أن نحو 80% من الإصابات تحدث بين غير الملقحين، كما أن 98% من الحالات الحرجة هي أيضاً من بين هؤلاء.
أربع موجاتٍ أساسية مرّ لبنان بها منذ «إصابته» بفيروس كورونا. اللافت، هنا، أن بداية دخول الفيروس في 21 شباط 2021 لم يحمل معه أية ذروة تذكر، إذ تصاعد عدّاد الإصابات بأرقامٍ كان بإمكان القطاع الصحي استيعابها، ولم تتخط الإصابات بالمجمل عتبة المئة أو المئتين في أكثر الحالات سوءاً (155 إصابة في الأول من آب، 145 إصابة في الثاني من آب و197 في 4 و5 آب)، إلى أن كانت الذروة الأولى عقب انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب، حيث وصلت الأعداد بعد عشرين يوماً من الانفجار إلى 600 إصابة دفعة واحدة (15 آب 2020). بعدها، بدأت الأرقام بالتدحرج، من 662 إصابة في 29 آب إلى 1280 إصابة في 26 أيلول 2020 إلى 1427 إصابة في 24 تشرين الأول إلى 1628 إصابة في تشرين الثاني منه. ولم تكد البلاد تستوعب هذه الموجة حتى أتت فرصة عيدي الميلاد ورأس السنة، لتدخل في موجةٍ ثانية هي الأقسى حتى اللحظة، بحسب رئيس اللجنة الوطنية لمتابعة لقاح كورونا الدكتور عبد الرحمن البزري، إذ وصل عدد الإصابات بعد عشرة أيامٍ من انتهاء عطلة الأعياد إلى 5872، وصلت بعدها المستشفيات إلى قدرتها الاستيعابية القصوى. واستمر هذا الوضع حتى أواخر نيسان الماضي، حيث دخل لبنان ابتداء من أيار الماضي فترة هدنة مع فيروس كورونا، فانخفضت الإصابات إلى ما دون الألف يومياً ووصلت في بعض الأحيان إلى أقل من 200 حالة (5 حزيران 2021). ولم يستمر ذلك لأكثر من شهرين، ليعود العداد إلى زخمه مع موسم السياحة الصيفية، وتحديداً منذ منتصف تموز، فعادت الإصابات لتتخطى الألف، وبلغ عدد المصابين في 28 آب الماضي 1320 واستمر ذلك حتى الأول من أيلول، عادت بعدها الأرقام إلى النشاط، منذ بداية تشرين الثاني، حيث سجل في 20 تشرين الثاني الماضي ما يقرب من ألف إصابة وزادت إلى 1510 إصابات في 25 منه و1518 في 30 منه. ومن المتوقع أن تستمر الأرقام في الارتفاع وصولاً إلى الذروة الجديدة التي تترافق ـ للمفارقة ـ مع موسم عيدي الميلاد ورأس السنة.
المتحوّرات «اللبنانيّة» الأساسيّة: «ألفا» و«دلتا»
ما يقرب من سبعة متحوّرات مرّ بها فيروس كورونا (دلتا، ألفا، غاما، لامدا، أبسيلون، أوميكرون..)، عدا عن الفيروس الأساسي الذي «ظهر» في مدينة يوهان الصينية. وقد صنفت هذه المتحورات بين «مثيرة للقلق» و«مثيرة للاهتمام». في هذا السياق، توضح منظمة الصحة العالمية أن الصنف الأول من المتحورات توضع في خانته المتحورات التي أظهرت أن بإمكانها زيادة قدرة الفيروس على الانتقال، أو التغيير في المظاهر السريرية للمرض، أو تلك التي تتسبب بانخفاض فعالية تدابير الصحة العامة والتدابير الاجتماعية، وانخفاض فعالية وسائل التشخيص واللقاحات والعلاجات المتاحة. أما بالنسبة إلى المتحورات المثيرة للاهتمام، فهي على العكس من ذلك، تتعلق بالمتحورات التي تسبب الانتقال المجتمعي للعدوى والتي تنحصر في بلدان متعددة فقط.
في لبنان، طغى على مجمل الإصابات التي اكتشفت في لبنان متحوران أساسيان، هما «ألفا» البريطاني و«دلتا» الهندي، اللذان يصنفان كمتحورين «مثيرين للقلق». ولئن كان متحور «ألفا» قد «انتهى» في لبنان، فإن المتحور المسيطر اليوم على جلّ الإصابات اللبنانية هو الـ«دلتا» الذي اكتشف في أيار الماضي. كما يظهر اليوم متحور جديد هو «أوميكرون» الـ«مثير للقلق»، إلا أنه حتى اللحظة الراهنة لم يصل إلى لبنان، ولا يزال محصوراً في عددٍ من البلدان.
وبالعودة إلى التسميات، فهذه المرة الأولى التي تخرج فيها التسميات من «النسب» إلى الأشخاص أو البلدان التي خرجت منها، حيث جرى نقاش عالمي بضرورة الهروب من الوصمة أو العار والتمييز التي ترافق عادة الأمراض الوبائية. وفي هذا السياق، ارتأت منظمة الصحة العالمية أن تكون التسمية هذه المرة وفق الأحرف اليونانية، فبدأت مع «ألفا» ثم «غاما» ثم «دلتا» والـ«لامدا» والـ«مو». وقبل أن تصل التسمية إلى الـ«أوميكرون»، «قفز» الخبران عن حرفين أساسيين هما الـ«نيو» والـ«زي» لـ«كون نصف الشعب الصيني يبدأ الاسم لديهم بهذا الحرف»، على ما يقول البزري، ولذلك وقع الاختيار على كلمة «أوميكرون». قبل تلك الاستراتيجية، كانت الأمراض والمتحورات تسمى باسم المناطق التي خرجت منها. هكذا مثلاً، سمّيت الإنفلونزا الإسبانية بهذا الاسم لأنها بدأت في إسبانيا ومتلازمة الشرق الأوسط لأنها بدأت في السعودية وإيبولا سمّيت على اسم منطقة في زائير حيث ظهر الفيروس...
راجانا حمية - الاخبار