لم تكن الإمارات لتحقق هذا الإنجاز الديبلوماسي التاريخي لولا تأصّلها وإيمان قيادتها وشعبها بمبدأ الانفتاح والتعايش الإيمانيّ والوجدانيّ. فالدولة التي خطفت أنظار العالم بسياستها الحكيمة والرزينة، جمعت القطبين الدينيين البارزين على أرضها، بابا الكنيسة الكاثوليكية، البابا فرنسيس، وفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف أحمد الطيب ونقلت الى العالم القداس البابوي، الذي يعدّ الأول من نوعه في منطقة الخليج العربي، بمشاركة أكثر من 160 ألف شخص من مختلف أنحاء العالم.
هذه الخطوة الجريئة في توقيع الاتفاق ترجمت فكراً ومساراً جديداً كرّس مكانة دولة الإمارات في منطقة أدمتها الحروب وشرذمتها النزاعات الدموية منذ عقود، وخيَّم عليها تطرف الجماعات الارهابية فدخلت أتون نفق الدمار المجاني والقتل العشوائي.
مشهدٌ لعب فيه العابثون بالأمن والاستقرار فحوّلوا أحلام شعوبهم إلى أشلاء وقادوا بلادهم من الإزدهار إلى القوقعة والدمار. إلا أن دولتنا التي تعتمد سياسة طويلة الأمد وتنظر بحكمة وتعاين الوقائع وتواكب التغيرات من منطلق واضح دون مواربة، ارتأت أن تفتح آفاقاً جديدة وأن تخطو نحو آفاق وامكانات كبيرة.
فها هي اليوم عبر "الإتفاق الإبراهيمي" تكمل مسار السلام لا الإستسلام، مسار القوة والإرادة الصلبة لا الهوان والضعف، ومدّ جسور التواصل والعلاقات التي ستسخّرها الإمارات كداعم قوي للشعب الفلسطيني ولكرامته وحقوقه ودولته ذات السيادة. ومن هنا كان قرارها الريادي الذي أوقف عملية الضم الإسرائيلي لأراضي الضفة الغربية.
فمن احتضان مختلف الجنسيات والطوائف على أرضها واحترام المعتقدات والشعائر الدينية وتوقيع "وثيقة الاخوة الانسانية" الى البيت الابراهيمي ووصول أول رائد فضاء إماراتي فـ "مفاعل براكة" النووي السلمي و"المدينة الانسانية" في أبوظبي لعلاج مرضى الكورونا، وصولاً إلى "مسبار الأمل" الذي اخترق فضاء العزلة وحقق طموح العرب بأن "اللامستحيل" هو قدر وقرار وتصميم، وقبلها الفوز بمعرض إكسبو الذي يُنظم للمرة الأولى في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب آسيا. هذه الانجازات العملاقة عكست حقيقة نهج دولة الامارات وفق سياسة عمَّدتها بالكفاح والنضال والمثابرة لتصنع غداً أفضل لشعبها وشعوب المنطقة العربية أجمع.
وهنا من المفيد الإشارة إلى اتفاق السلام التاريخي بين دولة إريتريا وجمهورية إثيوبيا، والذي مهَّد لعلاقات إيجابية بين الطرفين، وساهم في تعزيز الأمن والاستقرار في البلدين خصوصاً والقرن الأفريقي والمنطقة عموماً، وهذا يعكس الثوابت التي تنطلق منها دولتنا لصناعة السلام وتقريب وجهات النظر وقيادة شعوب المنطقة نحو اتفاقات تعزز منطق الحوار والتفاهم.
أرادت الإمارات عبر شجاعة قيادتها أن تقول بلغة واضحة إن السلام هو رسالة وإن مصدر الأديان التوحيديّة واحد، وهو إله محبٌّ للسلام...الأديان السماوية جمعاء، بتسلسل ظهورها، دعت الى المحبة والتكاتف لا الى التفرقة والكره، فقررت الامارات أن تكون في صلب هذه الاديان وتحمل الشعلة وتكون من الدعاة والمبادرين فتنفرد بهذا الاتفاق الذي أرادته مكملاً لوثيقة أبوظبي ودليلاً حاسما على أنها اختارت نهج مؤسسها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان "طيَّب الله ثراه"، والذي كان على رأس القادة العرب المهتمين دوماً بإحياء الحقوق الفلسطينية وحمايتها والحفاظ عليها وعودة الحق إلى أهله، واعتبار القضية الفلسطينية جزءاً رئيسياً مكملاً لسياسة دولة الإمارات.
هذه الحقيقة الراسخة لا تغيرها ألسنة وأبواق امتهنت الذم والقدح والتملّق، بل تعكسها الوقائع والحقائق والأمثلة الحية عن دور الامارات في نصرة الأشقاء والأصدقاء ومسارعتها الى الوقوف بجانب الفئات المستضعفة من أطفال وأيتام وأرامل وأصحاب همم وكبار المواطنين، ولنا في لبنان خير مثال! فكانت دولة الإمارات من أولى الدول التي بادرت الى الوقوف مع الاشقاء في محنتهم الاخيرة عبر جسر جوي إغاثي إنساني، وبرزت مبادراتها التي عكست عمق العلاقات بين البلدين ومتانتها عبر مشاريع وأعمال تعكس رؤية دولة الامارات في كل بقعة من بقاع العالم وفي كل محنة وعند كل نزاع...
الجوهر الحقيقي لـ"وثيقة الاخوة الإنسانية" كان بتحويلها من وثيقة إلى واقع ملموس ومعاش، وهل أوضح وأكثر تعبيراً من ذلك نشاط الامارات الانساني الذي جعلها تتبوأ المركز الاول في المساعدات على مستوى العالم؟ أو وقوفها الجدي والاخلاقي والعروبي مع أهلنا في فلسطين وحقهم الازلي والابدي في العودة بعيداً من سياسات المتاجرة وطمس الحقيقة وإخفاء المآرب والأهداف المبطنة التي كلفت القدس الكثير من دون تحقيق أي خطوة فعلية على مدار سبعة عقود؟!
الإمارات رسالة سلام لا حرب، وهي تملك من جرأة القرار السياسي لتعلن على الملأ مقاربتها الواقعية لقضايا الأمة ولتفرض توازناً جديداً لمعادلات القوة الاستراتيجية في المنطقة وخدمة أولوياتها الوطنية والعربية في آن واحد...
"مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة"... إلا أن دولتنا جسّدتها بخطوات رائدة على مدار أعوام من العمل الدؤوب والمثابرة المنظمة لتكون اليوم قبلة أنظار العالم ولتحتل مكانة مرموقة ومتقدمة، وهي تستعد للإنطلاق في أكبر استراتيجية عمل وطنية من نوعها للسنوات الخمسين المقبلة على كل مستويات الدولة الاتحادية والمحلية...ننتظر في الامارات المزيد من الإنجازات والقرارات الجريئة والشجاعة التي تعكس أحلام الأجيال المقبلة في وطن يشكّل نموذجاً خلّاقاً ومبدعاً وراقياً للتسامح...
سفير الإمارات العربية المتحدة في لبنان.
الدكتور حمد سعيد الشامسي
النهار، الصفحة الاولى،
19 آب 2020 | 01:02