كتبت هيام القصيفي في"الأخبار": هل سقط القناع السياسي والعسكري في 11 شباط، فتحوّل الجيش من حامٍ للمتظاهرين الى مانع لهم، ليصبح الصدام والمواجهات العنفية عنوان الرجل القوي الأوحد لقائد الجيش. ما هي الرسائل العسكرية وراء هذا التحوّل وما هي ردّة الفعل الأميركية؟
بين 17 تشرين الأول 2019 و10شباط 2020، تبدّل مشهد تعاطي الجيش جذرياً في تعامله مع المتظاهرين. ما سجل أمس، في أدائه، كسر المحظورات والكلام حول كليشيهات تتناول أداء الجيش و"دوره الوطني" وعدم المسّ به رغم تعرّضه للمتظاهرين بخشونة وعنف. فالأداء العسكري لم يكن وليد لحظة مواجهات تلقائية وفجائية، إنما كان نتيجة واقع مدروس، قلب قرارات الجيش التي اتخذت مع بدء التظاهرات قبل أشهر بحماية المتظاهرين وعدم التعرض لهم ، الى حد أنه استجلب نقمة العهد ورئيسه وأركانه عليه. فما الذي حصل حتى تحوّل الجيش ضد المتظاهرين، وسط كلام عن خلفيات أدّت الى قرار بانتشار ألف عنصر من فوجَي المغاوير والمجوقل في "ساحة المعركة"، على غرار مشاركتهم في مواجهات المعارك العسكرية مع تنظيمات إرهابية، فأصبحوا في قلب الحدث نتيجة العنف الذي مارسوه، علماً بأن تبرير اللجوء إليهم، رغم أنهم غير مدرّبين لهذا النوع من الأعمال الميدانية، هو أن الجيش كان يتوقّع حدّة وقوة في المواجهة فاضطر الى استخدام الفوجَين نظراً الى قدراتهما العسكرية، وحيازتهما آليات صغيرة قادرة على التحرك بسهولة أكثر من الأفواج العادية.
بعد الاجتماع الأخير للمجلس الأعلى للدفاع الذي ركز على ضرورة تأمين انعقاد جلسة الثقة "مهما كان الثمن"، عقد اجتماع أمني مشترك بين الجيش وقوى الأمن لتوزيع المهمات العسكرية، تحت عنوان وجوب عقد جلسة مجلس النواب وإعطاء الثقة للحكومة. للمرة الأولى يمكن الحديث عن إطار سياسي غطّى قرار الجيش، ليس من جانب المجلس الأعلى للدفاع وضغط أركان العهد فحسب، إنما نتيجة اقتناع قيادة الجيش بضرورة منح حكومة الرئيس حسان دياب الثقة، "لأن عدم انعقادها يعني الفوضى ودخول البلاد في المجهول". قد يكون هذا الشعار الذي تعمّم أمس، على لسان نواب حزب الله والتيار الوطني الحر، لتبرير عقد الجلسة لمنع الفراغ، في شكل مغاير لما حصل من جانبهما خلال مرحلة فراغ رئاسي لشهور طويلة، استحوذ على الجيش أيضاً. إذ ميّز بين تظاهرات تشرين الأول التي كانت "لأسباب مطلبية"، وحتى غضّه النظر أحياناً عن قطع الطرق، وتحرّك الحشود في بيروت لمنع انعقاد جلسة مجلس النواب.
الواضح أن نشر القوى الأمنية نحو ثلاثة آلاف عنصر أمني، منهم فوجا المجوقل والمغاوير وثلاث سرايا من فوج التدخل الثالث، وقوى الأمن الداخلي، عكس إصراراً على فتح ساحات بيروت أمام النواب والوزراء، بطريقة خشنة وصدامية الى الحدّ الأقصى، وذلك يتعدّى طموحات ضبّاط على الأرض بتسلّم مسؤوليات استخبارية أو عملانية أكبر. لأن العنف الذي استخدم منذ ساعات الصباح كان نتيجة قرار سياسي متّخذ في قيادة الجيش، وليس قراراً عسكرياً وأمنياً بحت، اقتضته الأحداث الميدانية تباعاً، أو التذرّع بتصرفات المتظاهرين ولجوئهم الى أعمال شغب.
بدا الجيش للمرة الأولى متدخلاً بوضوح مباشر في الأزمة السياسية، منحازاً الى الفريق الضاغط لإنجاح الحكومة. لكن القطبة المخفيّة تتعلق بما قبل حكومة دياب وما بعدها، لأن مرحلة الحكومة الماضية وتركيبة العهد والحكم التي كانت قائمة في ظل وجود فاعل لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون في انطلاقة العهد ورئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، والخلافات المستمرة بين الجيش ووزير الدفاع السابق، لم تكن تسمح لقائد الجيش بأن يكون "الرجل القوي". بل كان مطلوباً منه أن ينفّذ أجندة غيره من السياسيين فيتحوّل كبش محرقة، من دون أن يقبض ثمنها، ولا سيما مع الضغوط التي مورست لاستبداله. اليوم، تختلف ظروف قائد الجيش مع حكومة دياب، وانكفاء رجال العهد. وتصرّفه في بيروت، ولو حمل الحدّ الأقصى من العنف، كان بمثابة رسالة سياسية في مختلف الاتجاهات اللبنانية، بتقديم أوراق اعتماده من دون أن يضطر الى أن يدفع الثمن عن الآخرين، بل يظهر بمظهر القادر على اتخاذ قرارات صعبة وتنفيذها، فيحجز له مكاناً في الصف الأول.
انعكاس هذا التطور لا ينحصر محلياً، لأن الأميركيين معنيّون أولاً وأخيراً بوضع الجيش والمساعدات التي تقدم إليه. فقد ذكرت معلومات موثوقة أنه، للمرة الأولى، ترسل اليرزة إشارة سيئة الى واشنطن، وقد وصل تنبيه الى المعنيين بأن الصدامات الموثقة والمشاهد التي نقلتها وسائل الإعلام الدولية عكست مناخاً سيئاً في الدوائر الأميركية المعنية. فحتى الآن، كان الجيش لا يزال الرابط الوحيد الذي يعطي للمتحمّسين للبنان دافعاً للتدخل والضغط لعدم منع أي مساعدات عنه، وخصوصاً في ظل اللامبالاة الأميركية بالوضع اللبناني حالياً. إلا أن الرابط تهدّد أمس، ولا سيما أن أسلوب المواجهة استمر بعد وصول التنبيه، ما زاد من الإشارات السيئة.
إلا أن رهان قائد الجيش مرة أخرى أن الجيش لا يزال حاجة للاستقرار، إذا دبت الفوضى وانهار الوضع، فهو بات الأول بين المتساوين وباقٍ في موقعه. وسيضطرّ المعنيّون أميركياً ومحلياً الى التعاطي معه من هذه الزاوية لحفظ الأمن والاستقرار، ولو سقط في يوم واحد نتيجة المواجهات 45 جريحاً، نقلهم الصليب الأحمر الى المستشفيات و328 عالجهم في وسط بيروت.