كثيراً ما نتساءل، ونحن نواجه واقع الحال الذي تعيشه ناشئتنا: هل نظلم أبناءنا عندما نحاكم أعمالهم واهتماماتهم بالاستناد إلى المقاييس والمعايير التي نشأنا في حدود ضوابطها ؟ أم ثمَة ثوابت تربوية وأخلاقية واجتماعية تنضوي تحت سقف منظومة المفاهيم والقيم التي درجنا عليها وكانت سمة من سمات شخصيتنا العامة، لا بد من الالتزام بها، مهما بلغت ضراوة التردّدات المتسارعة للغزو المعولم الذي فرض كثيراً من المتغيّرات والتحدّيات والمخاطر التي تهدّد مرتكزات هويتنا الثقافية؛ فضلاً عن الأخطار المتأتية من واقع الأزمات والاضطرابات والحروب التي تنوء تحت وطأتها جوانب كثيرة من عالمنا العربي والإسلامي؟
إن المتغيّرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية تكشف ما إذا كانت المفاهيم التربوية قد توافرت لها الاستعدادات اللازمة للتكيّف مع المستجدات في مختلف الميادين؛ الأمر الذي يمكّنها من صياغة أولوياتها من طريق تمثل الطروحات المستحدثة الإيجابية التي تغني مساراتها، أو بمواجهة ما يشكّل منها تهديداً للأهداف الاستراتيجية للتربية في أبعاد بناء الإنسان وفاقاُ للمنظور الثقافي الذي يحفظ وجودنا الحي.
لقد أمسى انقياد أبنائنا لمغريات الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي من المؤشّرات الخطيرة على ما يتهدّد المرتكزات الأساسية للتربية. فهل ما زال أفراد الأسرة يعيشون فعلاً تحت سقف واحد، ويلتقون في غرف الجلوس وعلى موائد الطعام، يتبادلون أطراف الحديث، ويشعرون بدفء العلاقات الأسرية، فيتخفّفون بذلك من ضغوطات العمل والدراسة، ويتمكّن الأهلون من ممارسة موجبات الرعاية والعناية والمتابعة لشؤون أبنائهم، ويتاح لهؤلاء الأبناء بدورهم أن يلجأوا إلى والديهم لمساعدتهم على تخطّي ما يقعون فيه من صعاب ومشاكل متعدّدة المصادر والأنواع، ولإرساء النمط الطبيعي للعلاقة السويّة التي تربطهم بأوليائهم، وما تفرضه من موجبات والتزامات من شأنها أن تيسّر تحقيق الأغراض السلوكية والاجتماعية في بنائهم التربوي؟
لماذا هذا الاستسلام السلس لأولادنا للصمت المطبق أمام شاشات الحواسيب والألواح والهواتف الذكية والتلفزيونات وأجهزة الألعاب والتسلية، كأنهم صمٌ بكمٌ لا يسمعون ولا يتكلمون! أو كأنّ على رؤوسهم الطير، لا يتحرّك فيهم غير أصابعهم وعيونهم اللاهثة، ولا يستجيبون للنداء إلا اذا تكرّر غير مرة!
لماذا يستغني هؤلاء الأبناء عن مرافقة أهليهم إلى المتاجر والمقاهي والمطاعم، وفي النزهات والرحلات، ولزيارة الأقارب والاصدقاء...؟!
هل نعزو هذا الاستغراق الكبير في استخدامهم الوسائل التكنولوجية إلى ثورة المعلومات فقط؟ أم ثمّة ثقوب كثيرة في جدار الحماية العائلية للأولاد نتج من انشغال الأهل بشجون الحياة وتدبّر شؤونها من جهة، ومن عدم إيلاء المدرسة الأهمية اللازمة للحياة المدرسية والأنشطة اللّاصفية والتواصل المنتظم مع الأهلين من جهة ثانية، لتوفير السبل المؤاتية للتربية، ببعديها البيتي والمدرسي، كي تحقّق الغاية الأسمى لها، ألا وهي النجاح في الحياة وليس النجاح فقط في المدرسة؟!
لا شك أن العالم الإلكتروني أفسح المجال لأبنائنا كي يلقوا عليه أعباءهم وهواجسهم، وزيّن لهم أنه الملاذ الآمن الذي يوفّر لهم نوعاً من الألفة المزيفة مع تلك التقنيات الحديثة التي أفقدتهم فوائد التحاور والتواصل الاجتماعي الحي، وما ينتجه ذلك من سلامة في التنشئة والسلوك، واكتساب القيم الاجتماعية البنّاءة، والتمسك بخصائص المجتمع التراحمي، والتفاعل الإيجابي مع أفراد الأسرة(المجتمع الصغير)، في الطريق إلى الحضور الفاعل والمتفاعل مع المجتمع الأكبر، بعيداً من حالة الانعزال والانطوائية، وما قد تسبّبه من إكتئاب، وهدر الوقت بلا فائدة في غالب الأحيان، والإدمان المفرط في استخدام هذه التقنيات، بما يجعل من حسناتها سيئات...؛
إنّ الطريق ممهد إلى معالجة هذا الانحراف في استخدام التقنيات الحديثة المتصلة بثورة المعلومات، بما يوفّر للمستخدم سبل الاستفادة من فوائدها العظيمة، ومن غير أن يقع في أسر استعبادها له، وترحيله من عالم الواقع المعيش إلى العالم الافتراضي، وذلك إذا أحسنّا الالتزام بما يلي:
ـ اتباع نظام محدد لجعل اجتماع الاسرة نظامياً تحكمه مواعيد ومناسبات، وذلك بتقيّد الوالدين وأبنائهم بتناول وجبات الطعام معاً، وإطفاء أجهزة التلفاز والهواتف المحمولة في أثناء ذلك ، إفساحاً في المجال لتبادل أطراف الحديث بين الجانبين.
ـ التركيز على أهمية الفصل الكامل بين وقت الدراسة وتنفيذ الفروض، وبين وقت الراحة واللهو؛ بحيث لا يضيع الدرس في اللهو، ولا اللهو في الدرس، فيغيب التركيز في كليهما ، وتذهب الغاية من كل منهما أدراج الرياح.
ـ تحفيز الأبناء على الاهتمام بالأنشطة الرياضية والاجتماعية والثقافية الممتعة، إن بصورة مستقلة عن والديهم، أو بمشاركتهم.
ـ استدراجهم إلى حوارات وأحاديث في موضوعات تهمّهم وتنجذب إليها أسماعهم.
ـ أن يكون الوالدان قدوة لأبنائهم في تنظيم الوقت لاستخدام تقنيات الاتصال الحديثة.
ـ تحفيزهم على الزيارات المتبادلة بينهم وبين أصدقائهم.
ـ العمل على إرساء ثقافة المطالعة في فضاء البيت والمدرسة، بمختلف الوسائل والمغريات التي تقرّبهم من اكتساب عادة القراءة، وبناء جسور العلاقة الحميمة مع الكتاب.
ـ تدريب الأبناء على العمل الفريقي التعاوني في كثير من الاعمال المدرسية.
ـ العمل على رفع مستوى الذائقة الفنية لديهم، وتدريبهم على مهارات الرسم والعزف والاستماع إلى الموسيقى في أوقات الفرص، وربّما في أثناء بعض الحصص الدراسية.
ـ اصطحابهم إلى معارض الفنون التشكيلية، وحضور عروض مسرحية وسينمائية..
ـ رعاية ما يظهر لديهم من ميول وهوايات وتعزيز ممارستهم لها.
ـ تشجيع الاهتمام ببعض الزراعات المنزلية.
ـ....
على أي حال، ليس المطلوب أن يعمل الأهل على قطع علاقة أبنائهم باستخدام تقنيات التواصل الحديثة، أو أن يكون لديهم موقف سلبي منها، لأنها صارت حاجة لا غنى عنها ، ولأن الغاية التي تحكم توجّهنا، في معرض الهواجس التي تنتابنا إزاء هذه المسألة، هي في العمل على إشاعة جو التفهّم والتفاهم مع الأولاد، وإقامة الحوارات العقلانية الهادئة معهم، والإصغاء إليهم، وتوعيتهم على فوائد الالتزام بالضوابط التي تكفل استفادتهم من الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل "الاجتماعي" بصورة إيجابية، وفي الحدود التي لا تتسبّب فيها بخلخلة انتظامهم في المسارات الطبيعية للحياة البيتية والمدرسية، وبما يؤدِي إلى جعل هذه التقنيات الحديثة مصدراً آخر من مصادر البناء التربوي الذي لا يستقيم إلّا برفده بتدريب أولادنا على مهارات التنظيم والتواصل والاجتماع والتعاون، وتنسيبهم إلى منظومة القيم والمفاهيم التي تؤكّد على أن الفرد هو جزء من كلّ، وان سمته الأساسية التي تميّزه عن غيره من المخلوقات هي في تواصله الاجتماعي الحقيقي مع الآخرين، وليس في التواصل "الاجتماعي الافتراضي" الذي أسمّيه بلا تردد "التواصل غير الاجتماعي".